دمغت الرقص البلدي صورة نمطيّة، ما يجعل منه بالنسبة للبعض، فنّاً «مش قد المقام». ذلك يتنافى مع تاريخه، كأحد أقدم الفنون التي عرفتها البشريّة. في الفترة الماضية، دارت سجالات حول مكانة الرقص عربياً، خصوصاً بعد الأزمة التي أحدثها برنامج «الراقصة» في مصر. منذ أربع سنوات، يتنقّل الراقص والكوريغراف ألكسندر بوليكيفيتش بين بيروت والقاهرة، لخوض ورش عمل والمشاركة في مهرجانات للرقص البلدي، تجمع أربابه من مصر والعالم. ذلك ما جعله على تماس دائم مع أبرز صانعي المشهد الراقص على الساحة حالياً. يقدّم بوليكيفيتش خلال أيّام، محاضرة عن تراث الرقص وآفاقه المعاصرة في «المعهد الفرنسي»، كما يستعدّ لعرضٍ راقصٍ بعنوان «بلدي يا واد». واستجاب بوليكيفيتش لدعوة «السفير» لإنجاز صفحة تعيد تعريف القرّاء بالرقص البلدي، وتقدّم، ولو بشكل موجز، نبذة عن واقعه. هنا مرور سريع، ومكثّف، على تاريخ هذا الرقص وحاضره.

فكّرت كثيراً بما يمكن أن أبدأ به مقالتي هذه عن الرقص البلدي. والسبب في تردّدي ذلك يعود إلى أنّ هذا الفنّ محاط بسوء فهم، والكثير من الإجحاف. لذلك وجدت أنّ عبارة «معاناة» أفضل ما يلخّص الصورة. إذ أنّها معاناة تمتدّ على كلّ الأصعدة، من التسمية («رقص شرقي»)، وصولاً إلى التنميطات المسقطة على هذا الفنّ الراقي.
لنبدأ بالتسمية: الرقص الشرقي. في هذه العبارة نوع من التضليل، وإغراق لفنّ عتيق بمصطلح جغرافي غير دقيق. شرق من؟ وبالنسبة لمن؟ فالشرق يصل إلى اليابان بالمناسبة. العبارة المتداولة إعلاميّاً لوصف هذا الرقص، غير وفيّة لتاريخه، ولا تعبّر عن حقيقته. إذ أنّها ابتكار أوروبي، وفرنسي على نحو أدقّ (رقصة البطن). هل يعقل أن نتداول وبكل فخر ومن دون أي تحليل أو إعادة نظر، مصطلحات مستشرقين، عوضاً عن اللجوء إلى تسمية الشعب المصري لرقصه، وهي الرقص البلدي؟ نجد دلالة على ذلك، في تاريخ الغناء، فكلّما تمّت الإشارة إلى الرقص، تستخدم عبارة «البلدي» («آه يا بلدي يا واد» لأحمد عدويّة على سبيل المثال). فكيف نسمّي رقصاً عمره آلاف السنين، بتسمية أجنبية أطلقت عليه لاحقاً؟ لن أستفيض هنا بالحديث عن التعالي السائد تجاه كلّ ما هو محلّي.
لكنّ المعاناة الأكبر، تنتج من قلّة الكتابات والتحليلات حول الرقص، وهي إن وجدت، فأغلبها مكتوب بلغة أجنبيّة، وإن كتبت بالعربيّة، فتكون سطحيّة، ومبتذلة، ومقتصرة على مجلّات «النميمة»، حيث يحاط الرقص بمفاهيم ذكوريّة بالية. فكيف لنا أن نطور الرقص ونرتقي به، إن كنّا لا نكتب عنه بلغتنا، ولا ننظّر له، ولا نعرف عن تاريخه شيئاً؟
في هذا السياق من الضروري ولو بسرعة فائقة أن أتطرق إلى لمحة تاريخيّة مقتضبة عن هذا الفنّ، جمعتها من خلال قراءاتي ولقاءاتي في القاهرة مع أهم مدربي الرقص والمؤرخين حالياً. وبما أنّه «يحقّ للراقص ما لا يحقّ لغيره»، سوف أسمح لنفسي بأن أعطي رأيي بكلّ تجرّد.
صيد وصلاة
عند قدماء المصريين وشعوب الصحاري الأمازيغ، كان الرجل يذهب إلى الصيد وتبقى المرأة غارقة في تأمّل الطبيعة حولها. تأثر خيالها على الأرجح، بما كانت تراه حين يداعب الهواء الشجر، فتتراقص أوراقه وغصونه. قلّدت المرأة ما كانت تبصره عيناها في الطبيعة. وبحسب مدرّب الرقص والمؤرّخ المصري تامر يحيا عزيز، فإنّ المرأة بدأت بهزّ وسطها، فاختبرت الرعشة، وصارت تعتمدها كوسيلة للتعبير عن الفرح، والتهليل عند عودة الرجل ومعه صيد وفير. ويرجّح عزيز أيضاً، أن تكون تموّجات وتمايلات الخصر ناتجة عن تأمّل تلاعب الهواء بالكثبان الرمليّة.
تطورت الرعشة مع الوقت حتى أصبحت طقساً دينياً، كما تؤكّد بعض الدراسات والنقوش، التي تجزم بأنّ الرقص كان طقساً كهنوتياً لدى الفراعنة، يؤدّى في المعابد لآلهة الخصوبة، من خلال رعشة على مستوى الحوض. وكان يستخدم أيضاً في احتفاليات الموت، بما أنّه عبور إلى حياة أخرى. وقد شمل الأداء الراقص حينها الرجال والنساء سواسية. وحتى يومنا هذا، في صحاري المغرب والجزائر وليبيا، تقوم بعض نساء القبائل بالتجمّع حول المرأة، وهي تضع مولودها، ويقمن بهزّ خصورهنّ. ولم تقتصر النقوش التاريخيّة عن الرقص، على معابد الفراعنة، بل وجدت أيضاً على جدران معابد الفرس والأشوريين. وفي سياق «المقدّس» أيضاً، تأتي إلى مخيلتي قصة عرفتها منذ صغري، وهي رقصة سالومي الواردة في الإنجيل، والتي أودت برأس يوحنا المعمدان.
غوازي وعوالم
ومع مرور السنين، وعندما بدأت هجرات الغجر أو ما نسميهم «النور» إلى بلاد الشام، ومن ثمّ إلى أوروبا، استقرّ بعضهم في وادي النيل، وانصهرت تقاليدهم في تقاليد الرقص المحليّة. وكانت نتيجة هذا الانصهار، ظهور فئتين من الراقصات في مصر، هنّ الغوازي والعوالم. ويختلف المؤرّخون لناحية الفصل بين هاتين الفئتين، فبعضهم ينفي أن تكون الغوازي غجريّات، مؤكّداً أنّ الغوازي مصريّات تزوجّن من الغجر. وبعضهم الآخر يقول أنّه لا يمكن أصلاً الفصل بين غوازي وعوالم، مع تأكديهم أنّ الغوازي كنّ يرقصن في الشارع ويتنقلن في الطرقات، في حين قصدت العوالم مدارس لتعليم الإيتيكيت والموسيقى والغناء، كمدرسة شبراخيت (شمال مصر) أوائل القرن التاسع عشر. كما خرّجت المدرسة ذاتها ما عرف بـ «صبي العالمة»، وهو الذي كان يساعدها في جذب الزبائن، والتحضير للعروض، وكان يجيد الرقص ببراعة. ويلفت بعض المؤرّخين أيضاً إلى أنّ العوالم والغوازي اخطلتن مع مرور السنين، وأثّرن على رقص بعضهنّ البعض، وكان لهنّ تأثير كبير على تطوير الرقص عموماً.
علّم الغجر الغوازي الغناء، وهنّ بدورهنّ حفظن ذلك التراث، وأبقينه حياً، ومرّرنه من جيل إلى جيل. وفي الوقت نفسه، كان هناك نوع آخر من الرقص تؤدّيه الجواري في القصور. لا شك أنّ العثمانيين لعبوا دوراً في الصورة النمطية التي تلتصق بالرقص البلدي، لأنّهنّ كنّ يجبرن الجواري على الرقص عاريات الصدور.
محمد علي
بعد الحملة الفرنسيّة على مصر العام 1798، ضيّق نابوليون الخناق بشكل مهول على الراقصات، وقطع رأس أكثر من ألف غازيّة بتهمة نقل داء السيفيليس إلى جنوده.
وفي العام 1811، بعد مذبحة القلعة التي ارتكبها محمد علي باشا بالمماليك، بطلب من الباب العالي، فرّت الجواري من قصور المماليك، واختلطن بالغوازي، ما أدّى إلى دمج أسلوبَي الرقص (رقص القصور، ورقص الشوارع). وعاد محمد علي باشا في العام 1834 ليمنع الرقص في مصر، وينفي الراقصات إلى الصعيد حيث استمرت الغوازي في تكريس فنهنّ. ويعود سبب النفي إلى أنّ الرقص البلدي كان قد انتشر أيضاً في صفوف الرجال، ما عدّه الباشا تأثيراً سلبياً على صورة مصر. ويؤكّد كتاب جيرار دو نرفال «رحلة إلى الشرق» (1851) على امتهان بعض الرجال للرقص وممارسته في شوارع القاهرة، بالرغم من النفي والتضييق.
استمرّ المنع لعقود طويلة، بعدما نفيت الراقصات إلى الصعيد. ولكن عندما عادت الغوازي إلى القاهرة مطلع القرن العشرين، واستقرين فيها، اخترن، ويا لسخرية القدر، شارع محمد علي مكاناً ليزدهر فيه فنهنّ. وقد أقمن في ذلك الشارع لسبب عمليّ، إذ كان يحوي قصوراً بنيت حديثاً، تقام فيها الحفلات. ومنذ ذلك الحين، بدأ الرقص يشهد صعود نجم العوالم، أي العالمات في الغناء والرقص والعزف على آلة موسيقية، إضافةً لوازم الانشراح وجلساته. منذ ذلك الحين، لم تعد الغوازي تتجوّلن في الطرقات، بل صار هناك عوالم يحيين حفلات الأغنياء و»كبار القوم».
كازينو بديعة
نصل هنا إلى النقطة المحوريّة في تاريخ الرقص البلدي، ونعني بذلك عصر الفنانة الكبيرة بديعة مصابني (1892 ــ 1974). قلّة تعرف مدى أهميّة وتأثير بديعة مصابني على الرقص. فهي العرّابة الحقيقيّة لهذا الفنّ، ومنقذته، ليس فقط لأنها خرّجت أعظم الراقصات مثل حوريّة محمد (1918 ـــ 1970)، وتحيّة كاريوكا (1919 ـــ 1999)، وسامية جمال (1924 ـــ 1994)، بل لأنّها أوّل من أخرج الرقص من الشارع، ووضعه على خشبة المسرح. ولم تكتفِ بذلك، بل كانت أيضاً أوّل من وضع كوريغرافيا للرقص البلدي، وأوّل من حرّر الراقصة من مساحة المتر الربّع الذي كانت تحصر حركتها فيه. كما أدخلت مصابني حركات الباليه كلاسيك على البلدي، ما أحدث نقلة نوعيّة ارتقت بالرقص على مستوى تقنيّ وفنّي. ولكن باعتقادي جاءت هذه التغييرات لإرضاء طبقة برجوازية أرستقراطية، عندها عقدة نقص أمام المستعمر، وتريد الارتقاء إلى مستوى الباليه لأنّ «البلدي مش قد المقام».
لا يقف تأثير بديعة مصابني هنا فقط، إذ انّها ابتكرت رقصة الشمعدان كما نعرفها اليوم. في القِدَم كانت الشموع تثبَّت في خشبة دائرية الشكل متداخلة مع التنورة على مستوى الرجلين. طوّرت شفيقة القبطيّة (1851 ــ 1926) هذه الرقصة، ورفعت الشموع إلى مستوى اليدين، أما بديعة فوضعت الشموع على الرأس. هذه ليست إلا لمحة سريعة عن مدى أهمية هذه المرأة الفنانة، والراقصة، والمغنية، والإمبريساريو. وهذه النظرة السريعة المقتضبة جداً تخوّلني الآن الانتقال للحديث عن معاصراتنا من راقصات، للإضاءة على الواقع الرديء الذي نعيشه.
«طقش وفقش»
تقتصر التجربة اللبنانيّة برأيي على راقصتين هما ناديا جمال، وأماني. الباقيات لم يلمعن حقاً أو سافرن إلى الخليج، أو انتحرن. وبعضهنّ تزوّجن باكراً، كون الزواج هو «التوبة الكبرى» لدى الراقصات، وحالما يتزوّجن يعتزلن الرقص (لا تعليق).
وفي الواقع، فإنّ الرقص البلدي يشهد حالة انحدار كبيرة في لبنان، بلا حسيب أو رقيب، لدرجة أصبح من العادي جداً أن نسمع شجاراً تلفزيونياً تكون الشتيمة الكبرى فيه كلمة «راقصة»، ويغدو الرقص أمراً معيباً، ولا يجد من يدافع عنه. مع العلم أنّ كلّ الأمم تفاخر براقصاتها وراقصيها، في حين أنّنا نتستّر خلف «العادات والتقاليد» لتنميط الرقص، وإلقاء أحكام أخلاقيّة عليه. مع العلم أنّ الرقص البلدي جزء من تاريخنا الفنّي، ويستحقّ منّا المزيد من التقدير. وأكثر ما يثير الحزن بنظري، وبعد نقاشات كثيرة مع الناس في بيروت حول واقع الرقص البلدي، أنّ هنالك جهل كبير يحيط بهذا الفنّ. الكثير منّا غير قادر على تحديد ما إذا كانت الراقصة جيّدة على الصعيد التقني أم لا، وما إذا كانت تتمتّع بأذن موسيقية جيدة، تتيح لها اتبّاع الإيقاع. تقتصر وصلات الرقص حالياً على «الطقش والفقش»، بأبسط حلّة وأضعف مضمون.
ذلك برأيي ناتج عن عدم وجود عروض ذات قيمة فنية عالية. حتى أننا نحتار كلبنانيين لو أردنا مشاهدة عرض رقص بلدي، إلى أين نذهب. وحتى لو وجدت العروض، فإنّ المستوى التقني لدى الراقصات كارثيّ. وكنت قد تعمّدت على رأس السنة أن أبقى في البيت، لأشاهد ما ستقدّمه الشاشات على صعيد الرقص. فَرِحُت جداً لأنّ شاشتين اختارتا استقبال العام الجديد بوجود راقصة. ولكن، سرعان ما غيرّت رأيي، وتمنيت لو تشنقّ الأرض وتبتلعني، عندما أطلقت إحدى المذيعات لقب «سيدة الرقص الشرقي» على شابّة لا تتمتّع بأدنى مستوى تقني يخوّلها لتطلق على نفسها لقب راقصة أصلاً، إذ أنّ السيليكون رصيدها الوحيد. أمّا الثانية على الشاشة الأخرى، فحدّث ولا حرج، أو كما يقال بالعاميّة بين أهل المهنة «تعتير وشحار». ذلك ما دفعني إلى التفكير بتنظيم محاضرة حول هذا الفنّ، أشارك فيها تجربتي المتواضعة مع المهتمّين، وذلك في 19 شباط المقبل، بدعوة من «المعهد الفرنسي للشرق الأدني» و «المركز الفرنسي».
الهدف من هذا المقال، إيصال صوت أهل الكار إلى شريحة واسعة من المجتمع اللبناني، لتسليط الضوء على واقع الرقص البلدي، ومشاكله، ونجاحاته كما إخفاقاته، انطلاقاً من تجربتي في مصر. وقد كنت محظوظاً خلال الأعوام الأربعة الماضية، بالمشاركة في ورش عمل مكثّفة، ودروس خاصّة، على يد أرباب المهنة في القاهرة. وأعمل حالياً على توثيق كلّ تلك التدريبات، والنقاشات التي خضتها مع معلّمات ومدرّبي الرقص الحاضرين بقوّة اليوم على الساحة. لأنّه إذا كنّا نطمح إلى تطوير الرقص البلدي، وأخذه إلى أبعاد جديدة، فإنّ ذلك لا يمكن أن يتمّ بجهد فردي، بل بخلق الجسور بين القاهرة وبيروت.
(]) راقص ومصمم رقص